طالما كان التنمر موجوداً في مختلف المجتمعات، إلا أن وجود وسائل التواصل الاجتماعي وهيمنتها الواضحة في حياتنا أسهم في تغيير المقاييس. اليوم، لم يعد التنمر يعرف حدوداً جغرافية بولادة ظاهرة التنمر الإلكتروني التي يقع ضحيتها الأطفال والبالغين أيضاً. فغالباً ما يتم الربط ما بين التنمر الإلكتروني كظاهرة تطال المراهقين بشكل أساسي. في الواقع، يعد كل فرد في المجتمع، أياً كانت الفئة العمرية التي ينتمي إليها، عرضة للوقوع في هذا الفخ. واللافت ما نشهده حالياً من زيادة ملحوظة في معدلات التنمر الإلكتروني في ظل جائحة كورونا. فظروف الحجر المنزلي والعزلة أسهمت في الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما انعكس بشكل واضح على معدلات ضحاياه.
وبحسب مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في لبنان، تخطى عدد الشكاوى في حالات التنمر الإلكتروني الـ350، لكنها لا تعد كلها من الجرائم، فمنها الحالات البسيطة، وتلك المتوسطة، وتشكل النسبة الكبرى من الحالات، وتدخل في إطار الجنح. وأيضاً تصل شكاوى عن حالات أكثر خطورة تُعد كجرائم فعلية.
الابتزاز والتشهير وتشويه السمعة والقدح والذم، كلها من الحالات التي تدخل في إطار التنمر الإلكتروني، ويحاسب عليها قانون المراسلات والمعاملات الإلكترونية. ويُلاحَق المتنمر بناءً على الشكوى التي تقدمها الضحية، لكن المتنمر يكون مجهولاً بنسبة 99 في المئة من الحالات، لذلك يتم العمل على كشف هويته وملاحقته بفضل فريق من المتخصصين في المعلوماتية.
التنمر الإلكتروني بمختلف أشكاله
ربما كانت أشكال التنمر محدودة سابقاً، وكنا نشهد على مثل هذه الحالات في المدارس، أو في مجتمعات محددة. أما اليوم فتتعدد أشكال التنمر الإلكتروني ومستوياته، فيطاول مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية، وقد يحصل التنمر في إطار أخلاقي عبر الإنترنت، أو يتخذ منحى جرمياً. وفق ما يوضحه مستشار أمن المعلومات والتحول الرقمي، رولان أبي نجم، في حديثه مع "اندبندنت عربية"، يرتبط التنمر الإلكتروني من الناحية الإجرامية في كثير من الأحيان، بالـBlack Mailing، حيث قد ينتحل شاب هوية فتاة ليستدرج الشباب، أو العكس، عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر تسجيل فيديوهات والابتزاز، فيدخل هذا في إطار جرائم المعلومات. ويمكن أن يبدأ الابتزاز بكل بساطة من خلال صور وفيديوهات تُنشر، ويتم تداولها عبر وسائل التواصل، مضيفاً، "لعب التعليم من بعد لعب دوراً أيضاً في زيادة معدلات التنمر الإلكتروني مع كثرة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وإمكان استخدام الكاميرا للتصوير في الصفوف ونشر الفيديوهات والصور. فصُوّر أساتذة أو طلاب، وسُجّلت أصواتهم، وتم التداول بالصور والتسجيلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي".
ولا يقتصر التنمر الإلكتروني بجميع تداعياته التي يحذر منها الاختصاصيون، على هذا الإطار، بل يمكن أن يكون في إطار سياسي، فيُستخدم للضغط على جهة معينة، كما يحدث غالباً في المرحلة الحالية. والمجال مفتوح بوجود وسائل التواصل الاجتماعي المهيمنة على حياة جميع الأفراد، ويمكن لأي أحد أن يخلق حساباً وهمياً وينطلق منه لابتزاز الآخرين، فقد أفسحت وسائل التواصل الاجتماعي المجال للكل للقيام بممارسات من هذا النوع تدخل في إطار الأفعال العدائية المقصودة، مع ما لذلك من أثر نفسي أهم بكثير مما كان يحصل في التنمر الواقعي، بما أنه يتم التداول بالفيديوهات والصور والتسجيلات على نطاق واسع ما يؤثر أكثر بعد بالضحية.
شخصية المتنمر والضحية
من جهتها، تحذر المتخصصة في المعالجة النفسية، شارلوت خليل، بشكل خاص من خطر التنمر الإلكتروني على "المراهقين لأنها مرحلة عمرية حساسة فيها أزمة هوية لا يمكن الاستهانة بها، ما يجعلهم أكثر عرضة للخطر مع مخاطرتهم في علاقاتهم وحشريتهم للاكتشاف عبر الإنترنت. هم يشعرون بأنهم بأمان في التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما العكس صحيح، ويكونون أكثر عرضة للخطر، وهذا ينطبق أيضاً على المتنمرين. وبقدر ما يطول الوقت على الإنترنت، يزيد خطر التعرض للتنمر ولممارسات عدائية من هذا النوع. ومن الضروري أن يدرك الأهل أن أطفالهم ليسوا بأمان طالما أنهم يمضون أوقاتاً مع أشخاص لا يعرفونهم عبر الإنترنت، ويجب أن يراقبوهم عن كثب، ويتحققوا من الألعاب حتى يساهموا في توعيتهم لكي لا يشاركوا معلومات شخصية عنهم مع الغرباء".
ما بالنسبة إلى شخصية الضحية فيبدو واضحاً أنها تشعر بالذنب عامة، وإن لم يكن من الممكن تحميلها أي ذنب. أما المتنمر فيختار ضحاياه وفق معايير معينة، وقد تكون الضحية غالباً ممن يتميزون بالطيبة والصدق. والأسوأ أن تداول الفيديو أو الصور، حتى من قبل من يدعمون الضحية، يزيد من وقع التنمر عليها ومن الأثر النفسي. وأصبح واضحاً أن ضحية التنمر تمر بفترة من قلة الثقة بالنفس والشعور بالضعف والعجز مع صراع داخلي يمكن أن يسبب اضطرابات نفسية.
التحدي الأكبر في التنمر الإلكتروني
تلعب عوامل عديدة دوراً في مواجهة التنمر الإلكتروني، على رأسها الأهل والتربية. ففي فترة الحجر المنزلي، زاد استخدام الأطفال للأجهزة الإلكترونية، من دون أي مراقبة، فيما يبدو التواصل بين الأهل والأطفال السلاح الأمثل في مواجهة هذا الخطر. كما أن العمل على زيادة ثقة الطفل بنفسه له دور إيجابي، فيتأثر بمعدل أقل بالانتقادات التي يمكن أن يتعرض لها ويتحدث بكل صراحة عن كل ما يحصل معه.
أما بالنسبة إلى المدراس والجامعات فدورها لا يقل أهمية لتوعية الأطفال والشباب حول مخاطر التنمر الذي يمكن أن يقعوا ضحايا له. وتبرز أيضاً ضرورة التشديد على أهمية التبليغ عن أي حادث من هذا النوع لاعتباره جرماً يحاسب عليه القانون.
لا ينكر أبي نجم أن القوانين في لبنان، لا تطبق في مثل هذه الحالات، وغالباً ما لا يتم التعامل، مع هذا النوع من الجرائم بالجدية المطلوبة، وإن كانت هذه من الجرائم التي تلقى عقاباً شديداً في دول أخرى بالعالم. تعد التوعية الخطوة الوحيدة الجدية التي يتم العمل عليها حالياً. فيركز مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وجمعيات معنية على حملات التوعية في مواجهة التنمر الإلكتروني المتزايد في السنتين الأخيرتين، بخاصة أنه لا يمكن التعويل على القانون والمحاسبة. وفي كل الحالات، تبدو فاعلية القانون محدودة في هذا المجال لأن المتنمر قد يكون من بلد آخر، وقد يستحيل على السلطات المعنية الوصول إليه ومعاقبته.
الحل التقني موجود
من الناحية التقنية، المشكلة الأساسية في التنمر الإلكتروني، في أنه لا شيء يحذف على الإنترنت، فتُحفظ جميع الصور والفيديوهات والمعلومات، ويمكن أن يستخدمها أي أحد، في أي وقت. والخطر الأكبر هنا ليس في التطبيقات ولا في أي نظام في الأجهزة الإلكترونية، بل في المجموعات التي تقف خلفها وتتصرف بها على هواها. يشدد أبي نجم على ضرورة عدم نشر أو مشاركة ما يُخشى من انتشاره بأي شكل من الأشكال، خصوصاً ضمن مجموعة، لأن الخطر موجود دائماً. ويجب ألا تُحفظ على الهاتف الصور أو الفيديوهات التي ثمة تخوف من انتشارها، بسبب خطر القرصنة الموجود دائماً وإمكان اختراق الهاتف، وهذا بات معروفاً مع أنظمة كالـiCloud وغيره من أنظمة الحفظ.
كما أن ثمة خطوات عملية يمكن أن تساعد على الحد من الخطر لأهمية الأمن الرقمي في جميع الأجهزة الإلكترونية:
- اعتماد خطوتي التحقق 2 step verification على جميع المنصات لمزيد من الأمان على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يزيد من صعوبة اختراق الحساب. وفي هذه الحالة قد تتضمن الخطوتان رسالة نصية مع الرمز، إضافة إلى كلمة المرور، ويمكن اختيار هذه الخاصية من الإعدادات في الأجهزة الإلكترونية.
- يجب عدم إعادة إرسال أي رمز يصل في رسالة أو "واتساب"، ولو من شخص له معرفة به لأن هذا يشكل خطرَ تعرض الجهاز للاختراق.
- يجب اختيار كلمة مرور معقدة يصعب على أي أحد اكتشافها.
كما يبدو واضحاً أنه في ظل ما نشهده من فوضى بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن الاعتماد إلا على الوعي في المجتمع لمواجهة خطر من هذا النوع. وبما أن الأطفال والمراهقين يشكلون النسبة الكبرى من الضحايا فإن التوعية ودعم الأهل ووجودهم إلى جانبهم يشكل فعلاً حصانة لهم بما يحميهم من التنمر الإلكتروني أو من أي خطر آخر.
لقراءة المقابلة على موقع إندبندت مع الإعلامية كارين إليان ضاهر إضغط هنا
Cyber Security & Digital Transformation - Consultant & Expert
CEO – Revotips Expert Tech Consultants